هل يمكن للعدالة الانتقالية في السياق السوري أن تُصلح ما أفسده الاستبداد؟

رحاب شريباتي

المركزالثاني

 

هل يمكن للعدالة الانتقالية في السياق السوري أن تُصلح ما أفسده الاستبداد؟

في لحظات التحوّل الكبرى التي تعقب سقوط أنظمة الاستبداد، يبرز سؤالٌ محوري: هل تكفي العدالة لترميم ما تهشّم؟ 

وفي الحالة السورية المعقدة، حيث تعددت أشكال الانتهاكات والقمع والتهميش واستمرت لعقود من الزمن، أصبحت العدالة الانتقالية ليست مجرّد خيار، بل ضرورة وجودية، وعلى سطح الألم السوري تطفوا عدة أسئلة حول العدالة، هل تستطيع هذه العدالة، بأدواتها و آلياتها، أن تعيد للمجتمع توازنه، وأن تبني مستقبله على أنقاض ماضيه الجريح؟  وبطريقة أخرى هل يمكن للعدالة الانتقالية أن تصلح ما أفسده الاستبداد؟

العدالة الانتقالية هي مسار سياسي قانوني يسعى إلى معالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بعد فترات النزاع أو الحكومات الاستبدادية، وتشير معظم تجارب الدول إلى أن العدالة الانتقالية ليست حلاً سحرياً، لكنها إطار شامل يسعى إلى ضمان عدم تكرار الانتهاكات، عبر كشف الحقيقة، جبر الضرر، محاسبة الجناة، وإصلاح المؤسسات. وقد اعتمدها مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة كوسيلة لإرساء السلام وتعزيز المصالحة في المجتمعات الخارجة من أزمنة العنف والقهر.

في هذا السياق، يشدد تقرير “مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان” على أن العدالة الانتقالية تتطلب تصميماً يراعي الخصوصيات المحلية من جهة، و يستند إلى معايير حقوق الإنسان العالمية من جهة أخرى.

بالعودة إلى السياق السوري، حيث توغلت السلطات الأمنية في كل تفاصيل الحياة، وتحول القضاء إلى أداة للترهيب، تصبح المساءلة حجر الزاوية في تحقيق العدالة، فحسب “اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق بشأن سوريا”، فإن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان تشمل الاعتقال التعسفي، والإخفاء القسري، والتعذيب، وصولاً إلى استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين.

بناءً على ما سبق العدالة الانتقالية في سوريا تتجاوز فكرة المحاكمات الشكلية، ولكي تكون فعّالة، يجب أن تنطلق من رؤية تكاملية بين المساءلة القانونية والإصلاح الاجتماعي والمؤسساتي وبناء الثقة داخل المجتمع. المحاسبة دون اعتراف مجتمعي بالمسؤولية الأخلاقية والسياسية قد تُبقي جذور الاستبداد حية. والاقتصار على التعويضات المادية دون إصلاح مؤسسات الأمن والقضاء قد يُعيد إنتاج الانتهاك في ثوب جديد. فالعدالة الانتقالية في جوهرها لا تهدف للثأر بل إلى الترميم – ترميم الثقة، والمؤسسات، والذاكرة الجمعية.

و نقل تجارب عالمية مثل جنوب إفريقيا أو تشيلي إلى الحالة السورية قد يكون غير منصف. فالسياق السوري مركّب، تداخلت فيه سلطات استبدادية، وانتهاكات من أطراف متعددة، وتدخلات أجنبية، وغياب شبه تام للمؤسسات القضائية المستقلة. لذا، ثمة حاجة ملحّة إلى نموذج عدالة سوري، يُصمَّم على مقاس الوجع السوري، ويقوم على إشراك الضحايا والناجين في تحديد أولوياته وآلياته.

 

لكن، هل هذا ممكن دون سياق سياسي داعم؟ في الواقع إن العدالة الانتقالية لا تزدهر من فراغ. بل تكون نتاج بيئة سياسية تتوفر فيها الإرادة السياسية والمشاركة المجتمعية. وهذا ما يجعل طرح نموذج سوري خاص، غير مستنسخ من تجارب الآخرين، مسألة حيوية. وابتكار نموذج سوري خاص  يدمج بين المطالبة بالحقوق، ومراعاة تعقيدات الحالة، والاعتراف بتنوع المجتمع السوري وتطلعاته.

وهذا لا يمنع أن نتعلم من تجارب التاريخ أن السلام لا يقوم على النسيان، بل على الذاكرة النشطة والاعتراف. فهل نحن، كسوريين، مستعدون للبدء من هذا الاعتراف؟ وهل تملك قوى التغيير والمجتمع المدني أدوات كافية لفرض نموذج عدالة يحترم خصوصية السياق؟

ختاماً، إن العدالة الانتقالية ليست عصاً سحرية تُصلح كل ما أفسده الاستبداد، لكنها البوصلة العملية للخروج من نفقه ولعلّ أعظم ما يمكن أن تقدمه إذا ما صُمِّمت بأيدٍ سورية، وبإرادة لا تساوم على الحقيقة، هو أن تفتح الباب لمستقبل جديد، يُبنى على الحقيقة لا الإنكار، وعلى الاعتراف لا النسيان، وعلى المحاسبة لا الإفلات من العقاب. ففي العدالة، يبدأ السوريون كتابة روايتهم بأنفسهم، رواية لا يكتبها الجلادون.

 

                                                                                                                                          رحاب شريباتي

 

________________________________________________________________________