ندوق الدنيا والسينما: مرآة العدالة الانتقالية والذاكرة السورية

محمد طلال اسعيد

المركز الرابع

 

صندوق الدنيا هو ذلك الصندوق الخشبي البسيط الذي جال بين أزقة الأحياء في المشرق العربي في بدايات القرن العشرين و كان يعرف اصطلاحا بآلة “البيانولا” ليعرض صورًا متحركة تحكي للناس حكايات عن الأبطال المظلومين والوحوش، وهو أول أشكال السينما الشعبية، لكنه أيضًا استعارة عظيمة لفهم كيف يمكن للسينما أن تكون أداة لرواية الظلم واستعادة الكرامة وتحريك الضمير الجمعي. فكما كان الأطفال يحدقون في ثقب صندوق الدنيا باهتمام لرؤية حكاية مدهشة، نحن اليوم نحدق في شاشة السينما بحثًا عن معنى عدالة انتقالية وشيء من الحقيقة المفقودة.

يمثل صندوق الدنيا المسرح البصري الشعبي الذي يعرض مشاهد تُروى عبر الراوي. يشتغل الصندوق على الذاكرة الجمعية، ينقل القصص من جيل إلى جيل، يحافظ على الحكايات الشفوية ويربط الفرد بجماعة سردية.

السينما مثل صندوق الدنيا، ليست فقط وسيلة للترفيه، بل هي أداة لكشف الحقائق الغائبة ووسيلة لتوثيق الانتهاكات ومرآة تعكس التناقضات. في تجارب العدالة الانتقالية، لعبت السينما دورًا محوريًا في التوثيق، فأفلام وثائقية أعادت سرد جرائم كادت تُنسى، كما أن أفلامًا مثل تلك التي تناولت الأرجنتين كشفت تورط الأنظمة في اختطاف الأطفال خلال الديكتاتورية ومنها فيلم la historia oficial،  أو فيلم z اليوناني الذي صور اشتراك عملاء من أجهزة الأمن التابعة للطغمة العسكرية في اليونان بالاشتراك مع عناصر من اليمين المتطرف  في اغتيال أحد النواب اليونانيين اليساريين كل هذه الافلام  فتحت النقاش حول المسؤولية والعدالة.

سوريا بين صندوق الدنيا وضياع العدالة الانتقالية: 

في فيلم “صمت الآخرين” للمخرجين ألمودينا كاراسيدو وروبرت باهار، يتابع الفيلم على مدار ست سنوات نضال مجموعة من الضحايا الإسبان الذين يسعون لمقاضاة الجلادين السابقين في نظام فرانكو. ولأن القانون الإسباني يمنع ذلك، يتوجهون إلى الأرجنتين ضمن ما يعرف بالولاية القضائية العالمية.

ضمن شخصيات الفيلم تبرز ماريا مارتين، وهي امرأة تبحث عن رفات والدتها المدفونة في مقبرة جماعية، وأيضًا شخصية خوسيه ماريا، وهو رجل تعرض للتعذيب في السبعينات ويطالب بمحاكمة جلاده. يفضح الفيلم التقصير المؤسسي لدى الحكومة الإسبانية، التي لم تتبن عدالة انتقالية بل سحبت ملف الجرائم من التداول القانوني والإعلامي والسياسي.

وعند إسقاط الفيلم على السياق السوري، فإن الفيلم يشكل مرآة لما يحدث في سوريا من تغييب العدالة والتذرع بالاستقرار. في سوريا، حيث تُغزل الشعارات كما يُغزل السجاد اليدوي، تظهر العدالة الانتقالية كمشروع ضخم يحمل اسمًا جميلًا، لكنه معلب في صندوق قديم اسمه “الهردبشت”. ولمن لا يعرف، فـ”الهردبشت” هي كلمة شامية تصف التكدس العشوائي للملابس والأغراض في زاوية الغرفة دون نظام أو غاية، تفتحها فتنهال عليك المفاجآت: جورب وحيد، صورة ممزقة، وكف من الماضي. وهكذا العدالة الانتقالية في المشهد السوري اليوم: ملف فوق ملف، ولجنة تقابل لجنة، ومؤتمرات تلاحق ورشات، وتوثيق يتكدس فوق توثيق، بينما المجرم يتقاعد، والضحية يُطلب منه التحلي بالصبر.

قد تبدو العدالة في سوريا مشهدًا من مسرح الدمى داخل صندوق الدنيا. الراوي يتكلم، الجمهور يصفق، والدمى تتحرك، لكن الحقيقة لا تخرج من الحكاية. في الختام، لن تحدث عدالة انتقالية حقيقية في سوريا قبل أن يُكسر الصمت، وتُكشف القبور، وتُفتح المعتقلات، ويُسمى القتلة بأسمائهم. فالعدالة الانتقالية في سوريا ليست قصة محكمة ولا خطة زمنية، إنها “هردبشت” مقدسة تحاول أن ترتب فوضى لا يريد أحد ترتيبها.