مقالة رأي
الكاتب : ريشان مسور
من قصص النضال اللاعنفي … العلم والرياضة وجهان لعملة النضال السلمي
إن مبدأ اللاعنف (المعروف أيضاً باسم “النضال اللاعنفي”)، يرفض استخدام العنف الجسدي لتحقيق تغيير اجتماعي أو سياسي. وهذا الشكل من أشكال الكفاح الاجتماعي، الذي كثيراً ما يوصف بأنه “سياسة الناس العاديين”، قد تبنته جماهير الناس في مختلف أنحاء العالم، في حملات ترمي إلى تحقيق العدل الاجتماعي.
وفي ظل موجة العنف وعدم الاستقرار الأمني التي تجتاح مناطق سوريا، وبالأخص منطقة شمال شرق سوريا، وبكل ما عايشته من الفقر والاستغلال وعدم الأمان والقتل خلال السنوات العشر الاخيرة من الثورة السورية 2011، أصبحت رائحة الدم والأشلاء التي تملأ حياتنا، لغتنا، إعلامنا، ثقافتنا، سلوكنا، بحيث يبدو الحديث عن لغة اللاعنف نوعاً من الترف أو من الخيال واللاواقعية. مع ذلك، ثمة أمثلة عديدة لدول وشعوب اختطت طريق ونهج اللاعنف في سبيل تحقيق أهدافها، ونجحت في ذلك.
إن النضال اللاعنفي ليس عملاً اعتباطياً، كما قد يتصور البعض، إذ قبل الشروع في أي نشاط لا عنفي، يجب امتلاك الرؤية الصحيحة لطبيعة القوة السياسية والجهود المدنية المعارضة التي يواجهها، لما في ذلك من أهمية في رسم التكتيكات والاستراتيجية، فالنظرة الخاطئة تؤدي إلى الفشل، كما يقول غاندي مؤسس حركة اللاعنف: لكي تكون وحدة الشعب حقيقية، يجب عليها أن تصمد أمام أقصى أنواع الضغط دون أن تنكسر.
<اللاعنف هو سلاح الاقوياء هكذا يردد دايما الدكتور مسور على مدار حياته.
وفيما يلي واحدة من قصص النجاح التي يمكن أن نضيء من خلالها على النضال اللاعنفي وثقافة اللاعنف:
في إحدى مدن سورية ومن قلب مدينة قامشلي، كان هناك رجل يُدعى ريبر .
كان ريبر منذ صغره مؤمنًا قويًا بأهمية النضال اللاعنفي وقيم السلام والتسامح، وملهما بمدى ارتباط الحياة السليمة مع الرياضة والعلم والثقافة. وكانت مدينته تعاني من توترات طائفية وصراعات مستمرة بين مجموعات مختلفة، حيث تتعدد فيها المكونات من عرب وأكراد ومسيحيين من الأرمن والسريان، والقليل من الايزيديين والتركمان، وتتمركز كل طائفة من كل مكون في منطقة معينة ضمن المدينة. تميزت مدينة قامشلي بالتنوع الثري للثقافات العرقية والقومية، إلا أنه لا يجب أن ننسى أنه في حالات نشوب الحروب والتوترات الأمنية “فكلٌ يبكي على ليلاه” وكل فرد يعبر عن انتمائه لطائفته، ويكون قادرا على حمل السلاح في وجه القوميات الأخرى والأفراد غير المنتمين لـتوجهاته السياسية أو القومية أو الحزبية.
كانت القامشلي وتحديداً في اليوم 12 مارس 2004 على موعد مع قضية عصيبة، بثت في قلوب الكثير من (الاكراد والعرب ) الحقد والكراهية ، حيث أثارت مباراة كرة قدم في القامشلي بين نادي “الجهاد ” الكردي ونادي “الفتوة” العربي من دير الزور على أرض ملعب في القامشلي، اشتباكات عنيفة بين مشجعي الفريقين، والتي وصلت إلى حدِّ إطلاق الرصاص العشوائي وحرب شوارع ، أصيب على إثرها العديد من الأشخاص واستشهاد العشرات من أبناء مدينة القامشلي، والذين لا تزال ذكراهم تخلد حتى اليوم.
ومن هذه القضية التي لا تزال حسرتها تلوع قلوب الكثير من الأمهات، وتؤجج الحقد جيلاً إثر جيل، بدأ ريبر مسيرته عندما كان في سن الثالثة عشر بانضمامه إلى النادي الرياضي لمنتخب الحسكة عام 1982 م، حيث مثَّل عدة أندية رياضية منها نادي رميلان لفئة الناشئين حتى عام ١٩٨٦ و نادي الجهاد لفئة الشباب عام ١٩٨٧م .
من بوابة الرياضة قرر أن يعمل على تغيير واقع مدينته بطرق سلمية، حيث كان يقضي أغلب أوقاته في الملاعب والنوادي، ويتعرف على الشخصيات المؤثرة من كافة المكونات، ويعمل على إجراء حوارات معمقة حول سبل دمج الشباب من كافة المكونات في الفريق الرياضي.
لم يكن ريبر لاعبا وممثلاً عن نادي الرياضي فقط، بل درس واختص في طب الأسنان في جامعة حلب وتخرج في سنة 1994 م.
واليوم تشكل عيادته موئلاً للفقراء والمحتاجين، في الوقت الذي تتزين أرففها بالكؤوس والميداليات الذهبية والفضية للنجاحات الرياضية التي تجمع أعداداً كبيرة من شباب المنطقة. كما يعمل أيضاً على تقديم الدعم للفئة الشابة من خلال تكفله بتعليمهم الدراسي وتدريبهم في النادي، ليصبحوا عائلته التي يساعدها لتواجه ظروف الحياة الصعبة، وليؤمن لهم فرص عمل مناسبة تساعدهم على العيش ومواجهة ظروف المعيشية الصعبة.
لا يزال ريبر يكمل مسيرته في عقد جلسات حوارية مفتوحة عن أهمية التسامح والاحترام والمقاومة السلمية بين أعضاء المجتمع والفئة الشابة من مختلف الطوائف والأعراق، ولاسيما تنظيم أنشطة رياضية تعزز التفاهم المتبادل والاحترام.
ومما يثير الإعجاب، أنه حتى وهو يمارس عمله على رأس المرضى، يتحدث ريبر عن أهمية دور الفرد في الحياة وأن الرياضة هي عبق الروح، وأنها المسكن القوي للسلام النفسي، ولاسيما الشباب الذين أصبح العنف وحمل السلاح أحد السمات الرجولية لديهم بعد تدهور الوضع الأمني فيها.
يؤكد ريبر أحد أبرز سمات النضال اللاعنفي في مسيرته فيقول:
” أهم وأبسط قواعد الحكم والتأثير على الأفراد تأتي من خلال الدفاع عن مبادئ وحقوق الإنسان أيًّا كان لونه أو شكله أو عرقه، وبكل تواضع وشجاعة وتفان دون غرور أو أنانية.
ريبر اليوم هو رئيس نادي الجهاد في الجزيرة، لم يقتصر أثره فقط على الجزيرة السورية، بل امتد إلى كافة المحافظات السورية من خلال اللعب مع كافة المنتخبات السورية من المحافظات الأخرى.
واجه ريبر العديد من التحديات في رحلته، في مقدمتها المقاومة الشديدة لمنهجه من قبل بعض الأفراد المتعصبين لأفكارهم القومية والدينية والطائفية، وذلك عبر منع أبنائهم من الانضمام إلى الحراك العلمي الرياضي، بهدف إبعادهم عن روح التآخي وزرع فتن ومعتقدات العصبية للمقاومة العنيفة، ومن أكثر التحديات تكرارا اضطراره لإغلاق عيادته بحكم الجلسات والحوارات التي كان يعقدها ،وضعف الموارد المادية التي تمكنه من تقديم المساعدات للفئات الشبابية .
استمر ريبر في عمله بإصرار وثبات إلى يومنا هذا، وعمل على ايجاد الحلول للكثير من القضايا العشائرية في المنطقة، ومثَّل فئة الشباب في مؤتمرات المجتمع المدني للمطالبة بحقوقهم، كذلك مثَّل الأطباء المميزين/ات ذوي الأثر الإنساني خلال الثورة في سوريا من خلال مساعدة الفقراء والمحتاجين والقيام بالعمليات السنية المجانية.
توسعت دائرة تأثير ريبر تدريجيًا، وبدأ العديد من الأشخاص في الانضمام إلى مسيرته من أجل السلام والتسامح والتعاون، حتى تم الاعتراف بالنادي ودوره البارز كأب روحي للشباب، من قبل السلطة الحاكمة في منطقة شمال شرق سوريا، وتمكينه من إقامة الحملات التوعوية للمجتمع المحلي حول أهمية التعايش السلمي والتنوع العرقي في المنطقة.
بفضل جهود ريبر والأفراد الذين آمنوا به وبقدراته، بدأت العقلية تتغير تدريجيًا في المنطقة، وبدأت المناطق تتعاون فيما بينها في مشاريع تنموية مشتركة، سواء كانت رياضية أو ثقافية أو اقتصادية، وتمتنع عن استخدام العنف كوسيلة لحل نزاعاتها.
وصل صدى نجاح ريبر وجماعته إلى مستوى أوسع، حيث حازوا على اهتمام ودعم منظمات دولية وشركاء تنمويين. وتمكنوا من توسيع نطاق عملهم إلى مناطق أخرى تعاني من نفس التحديات في سوريا.
كما أنه حقق نجاحا واسعا في إقامة مباراة في سنة 2021، والتي تعتبر المباراة الرسمية الأولى من نوعها منذ عام 2004 بين فريقي نادي الجهاد والفتوة، على أرض ملعب دير الزور، ولقد لاقوا ترحيباً كبيراً من أهالي دير الزور، حيث كان الجمهور متعطشاً لرؤية مباريات تجمع الشعب السوري سوياً .
في نهاية المطاف، تم تحقيق تحول كبير في منطقة. حيث تحولت الصراعات السابقة إلى تعاون وتفاهم، وارتفعت مستويات التعليم والصحة وفرص العمل. وأصبحت المنطقة نموذجًا يُحتذى به للنضال اللاعنفي وثقافة السلام.
تعتبر قصة نجاح ريبر درسًا حيًّا في قوة النضال اللاعنفي، وقدرته على تحقيق التغيير الإيجابي في المجتمعات المعقدة. فبفضل التفاني والإصرار والقيم السامية، تمكن من تحويل صراعاتهم إلى فرص السلام والتقدم.
ختاماً لا بد من التأكيد على أن العمل النضالي السياسي يجب أن ينصب على أهداف قابلة للتحقيق، من خلال الترويج للأفكار اللاعنفية، والعمل بالطرق السلمية، وإدانة كل من يدعو إلى خلاف ذلك ومن كل الأطراف، حتى نستطيع أن نقدم درساً يضاف إلى ما قدمته دول وشعوب أخرى سبقتنا في هذا المجال، واستطاعت عن طريق العمل السلمي، أن تتقدم وتخطو خطوات نحو الديمقراطية واحترام حقوق الانسان.
الختام
روابط الإعلامية عن انجازات ريبر :
منظمة مارس، هي منظمة حيادية توفر مساحة حرة للتعبير عن الأفكار والآراء ،نود التأكيد بأن المعلومات والآراء والأفكار الواردة في هذه المقالة تعبر عن رأي قائلها، ولا تعكس بالضرورة مواقف أو سياسات المنظمة ومنصاتها.