مقالة رأي
الكاتب : رياض هاشم
إن الباحث في تاريخ التجمعات البشرية وسلوكها السياسي، يجد تقارباً كبيراً من حيث اعتمادها على شرائع أو أعراف تحكمها، ترتكز أحياناً على الدين كما في الحضارة الإسلامية أو على اتفاقيات وأعراف مجتمعية، كما في الحضارة البابلية في شريعة حمورابي. وهو أمر يؤكد بصورة أو بأخرى، قِدمَ القوانين وحتميتها في حياة أي مجموعة بشرية، ويثير التأمل في قدرة الانسان على اجتراح قوانين تواكب كل مرحلة يعيشها. وقد بلغ هذا التطور مداه في شكل الدول وشكل القوانين التي تحكمها، والذي استقر في نهاية المطاف على بنيان سياسي قانوني، شكَّل أرقى ما أنتجته الإنسانية من أنظمة حكم في القرن العشرين، ونعني به الدولة الديمقراطية المرتكزة على مبدأ المواطنة وعلى قوة القوانين وسيادتها.
ولعل هذا يتجلى أكثر ما يتجلى في دول الاتحاد الأوروبي، التي رغم تعدد مكوناتها البشرية في ألستنها وألوانها وأفكارها ومعتقداتها، إلا أنها تمكنت من تشكيل هوياتها الثقافية الخاصة بها، والاجتماع حول هوية وطنية واحدة.
لقد استطاعت الدول التي اعتمدت مبدأ المواطنة، أن تنتج قوانين وتشريعات تلبي طموحات شعوبها في تحقيق الأمان والاستقرار، وترسيخ العدالة والمساواة، والحفاظ على الحريات العامة والخاصة، بما يضمن مشاركة الجميع في صياغة دستورها الوطني، بل خلقت تدافعاً وتنافساً صحّياً بين المواطنين على اختلاف أفكارهم وانتماءاتهم، على حماية دستور بلادهم والتطوير الدائم للقوانين الوطنية بما يتناسب مع حركة تلك المجتمعات والمتغيرات الدولية.
بناء على ما سبق يبرز سؤال هام عن العلاقة ما بين دولة المواطنة الحديثة وسيادة القانون وسموِّه على جميع الأفراد والمجتمعات.
بداية يجب تتبع الآلية التي يتم من خلالها إنتاج القوانين وتطورها إلى أن استقرت على ما هي عليه في دولة المواطنة. فمن الناحية التاريخية، ارتبطت المنظومات القانونية بإرادة الحاكم المفردة باعتباره الهاً أو المفوض عن الآلهة، كما في الحضارات القديمة في مصر وغيرها، وصولاً لنظرية التفويض الإلهي في أوروبا القرون الوسطى. ومع تطور التجارب البشرية بدأت الشعوب تربح بعض الخصوصية من خلال صكوك يمنحها الحاكم نتيجة الثورات، كما حصل في الماجنا كارتا في بريطانيا، ولربما كان التحول واضحاً مع بداية الثورة الفرنسية في نهاية القرن التاسع عشر، حيث ولدت الجمهورية وبدأ وضع قواعد الدولة الحديثة، ثم تبعتها باقي الدول الأوروبية التي بدأت تحولاً كبيراً في بنائها السياسي والقانوني.
إن مفهوم سيادة القانون حسب معجم أكسفورد الإنكليزي، هو المبدأ الذي بموجبه يخضع جميع أعضاء المجتمع (بما في ذلك أعضاء الحكومة) للمساواة والعمليات القانونية التي يكشف عنها علنا. وأما مفهوم المواطنة المتساوية، فهو مجموعة من القيم، كالانتماء والمشاركة الفعالة والتسامح والعدالة والحرية، والتي تؤثر على شخصية الفرد وتجعله أكثر إيجابية في إدراك ماله من حقوق وما عليه من واجبات نحو وطنه.
وبحسب تعريف المصطلحين (المواطنة وسيادة القانون)، يتضح مدى الترابط بينهما، فهما يرتكزان في جوهرهما على قيم الحرية والعدالة والمساواة وكرامة الإنسان، على عكس الدول الاستبدادية التي شُوِّهت تلك المصطلحات بشكل كبير، وسمحت بالحرية الفردية وصادرت الحريات الجماعية، وخرقت المساواة في المجتمع من حيث تكافؤ الفرص وتوزيع الامتيازات، بل وحطت من كرامة المواطنين، فالمقربون منهم ومن يتبعهم من العسكريين والسياسيين والتجار ورجال الدين، موفورو الكرامة، وأما الآخرون فلا كرامة لهم.
مَثَل القوانين والتشريعات في ظل دولة المواطنة (المواطنة المتساوية) كمثل زرع نبت في تربة طيبة خصبة ستلقى العناية والحماية من المواطنين أنفسهم، ويتجلى هذا الترابط بينهما في الآليات الصحيحة والمرنة في إنتاج القوانين، حيث يشترك الجميع في كتابة دستور بلادهم والتصويت عليه، ويعطونه شرعية حقيقية ويحرصون على تطبيقه، فهو يعبر عن إرادتهم ويلبي طموحهم، بل ويصبح المواطنون حراساً لدستور بلادهم.
في دولة المواطنة المتساوية يخضع الجميع لسلطة القانون حكاما ومحكومين، و تمثل الرقابة الشعبية على تطبيق القانون عاملاً مهماً في إبراز فعاليته.
إن ما حصل للمجتمع السوري عقب قيام الثورة من تشظٍّ كبير في البنية المجتمعية، تعدى إلى مراجعة الهوية الوطنية السورية، هو أمر طبيعي ، لأنه يمثل الآلام الجانبية لعملية الولادة الجديدة والانعتاق من ربقة الاستبداد، التي تعيد تشكيل الهوية الوطنية بل وحتى الهويات الفرعية لكل مكون من مكونات الشعب السوري، فالكل أخرج ما عنده سلباً كان أم إيجاباً، والكل اختار طريقه الذي ظنه ينجيه من الزوال والضياع، فالمسيحيون أخذوا جانب الحياد لقناعتهم بأنهم أقلية، وكون الصراع بين أهل السنة والأقلية العلوية الحاكمة المدعومة خارجياً، سيجعلهم ضحايا على هامش المعركة. أما الطائفة الدرزية فكان حيادها بحجة أن الثورة إسلامية ومشروعها ليس كما يرتضونه، وللأسف وقع الدروز في نفس الخطأ خلال خروجهم الأخير منذ سنة حيث رفعوا رايتهم الخاصة. والأكراد كذلك انكفؤوا على مشروعهم القومي بمحاولة إنشاء دولة للكرد ورفع راية هذا المشروع، والعلويون وأنصارهم دخلوا في المشروع الإيراني (الفارسي)، ولباقي المكونات توجهات سياسية كثيرة لا يسعها المقال.
ربما بعد ثلاثة عشر سنة من الثورة، صارت لدى السوريين قابلية للتقسيم بحكم التعقيدات الدولية وتقاسم الدول الكبرى والإقليمية لمناطق النفوذ في سوريا، إضافة لرغبتهم الأساسية في إنهاء مأساة الحرب والعودة إلى بلدهم، ولعل الأقليات هم الأكثر رغبة بذلك، أما الحقيقة فهي أن المجتمع الدولي لن يسمح بتقسيم سوريا بل سيسعى للحفاظ على وحدة أراضيها، بالرغم من أن السلوك الحالي لتلك الدول من حيث تقاسم النفوذ ووضع قواعد عسكرية وعزمها على البقاء يصنع شكلاً من التقسيم وتوزيع النفوذ. حيث يرى الأمريكان أن وجودهم ضروري لحماية آبار النفط من الوقوع في أيدي الإرهابيين. وأما الأتراك فيبررون وجودهم بحماية حدودهم الجنوبية من الجماعات الإرهابية الكردية، والروس كذلك يبررون وجودهم بالحفاظ على الدولة السورية بشكلها الحالي، وأما الإيرانيون فيرون في دمشق قلعة في وجه المشروع الصهيوني. ولكن هذا التقسيم المتعمد هو أمر مرحلي، حيث الجميع يترقب بحذر الفرصة لفرض سيطرته على سوريا كاملة، وهو السبب في رغبة المجتمع الدولي في الحفاظ عليها كوحدة جغرافية واحدة.
إن الأذى طال كل المكونات بدرجات مختلفة على مدى ثلاثة عشر عاماً، وهذا يضع الجميع في صف واحد ضد الاستبداد، ويضع المسلمين السوريين والذين يشكلون 80% من سكان سوريا أمام استحقاق كبير بحكم دفعهم معظم فاتورة الثورة من قتل واعتقال وتهجير وضياع للممتلكات، بأن يكونوا حاملاً للدولة الجديدة (دولة المواطنة) وأن يحتضنوا جميع المكونات الإثنية.
وأظن أنه صار لزاماً على السوريين أن يدركون أن دولة المواطنة المتساوية هي المخرج لهم، وذلك لوجود تنوع في البنية الديموغرافية كما أسلفنا، مع ضرورة العمل على التخلص من الولاءات للدول الخارجية والخروج من برامجها السياسية، والعمل ليلاً ونهاراً للتخلص من الأمراض السياسية والمجتمعية بين مكونات السوريين، وفي مقدمتها الإقصاء والتهميش وطمس الهويات وعدم احترام التوجهات الثقافية، والعمل على توزيع الامتيازات وتكافؤ الفرص، بحيث يربح الجميع ولا يخسر أحد.
منظمة مارس، هي منظمة حيادية توفر مساحة حرة للتعبير عن الأفكار والآراء ،نود التأكيد بأن المعلومات والآراء والأفكار الواردة في هذه المقالة تعبر عن رأي قائلها، ولا تعكس بالضرورة مواقف أو سياسات المنظمة ومنصاتها.