سوريا ما بعد الأسد: كيف نصنع ديمقراطية لا تكرّر أخطاء الماضي؟
محمد جلو
المركز السابع
“ماذا تعني لك الديمقراطية؟” سأل أحد الحاضرين شاباً خلال أحد النقاشات التي حضرتها في شمال غرب سوريا.
بعد برهة من الصمت واستجماع ما أمكن من الشجاعة نطق الشاب بإجابة صادمة وبسيطة ومؤلمة بصدقها: “يعني نحكي وما حدا يعتقلنا”.
فبعد سنوات من القبضة الحديدية ها هي سوريا تتنفس أخيراً هواء الحرية، لكن الحرية وحدها لا تكفي إذ إن سقوط الأنظمة الاستبدادية ليس نهاية المطاف بل بداية الطريق الأصعب ألا وهو كيف نبني نظاماً يحترم الإنسان ولا يسقط في فخ الديكتاتورية من جديد؟
لذا فإننا اليوم أمام فرصة تاريخية وربما تكون الأخيرة لتحويل دماء الضحايا وأحلام الثوار إلى دولة عادلة.
لكن الانتقال من الدول الديكتاتورية إلى دولة الحرية والديمقراطية عبر الثورات يحتاج إلى أكثر من الشعارات، يحتاج إلى وعي جماعي بأن العدو الحقيقي ليس أشخاصاً بل منظومة استبداد وفساد قد تتجدد بأسماء وجوه جديدة.
وهنا حيث تتدافع الأصوات بين من يريد الانتقام ومن يريد النسيان، بين من يتشبث بالهوية الضيقة ومن يحلم بمواطنة متساوية، كيف نضمن أن تكون سوريا الجديدة وطناً للجميع لا لغالبية تكرس استبداد الأقلية؟
ما بعد السقوط: اختبارات الثورة والمجتمع
الثورة لم تكن نهاية الطريق بل بدايته الشائكة فحين خرج السوريون يهتفون للحرية لم يكن لديهم خارطة طريق بل أمل جماعي بالخلاص فقط، إلا أن هذا الأمل كان كافياً لبداية شيء عظيم.
لكن بعد انكسار حلم الدولة الديمقراطية اكتشفنا أن السقوط لا يعني نهاية الاستبداد بل بداية تحدٍّ أكبر وهو كيف نمنع ولادته من جديد؟
ففي أغلب المناطق التي خرجت مبكراً عن سيطرة النظام قبل سقوطه لم يظهر فيها دائماً نموذج ديمقراطي حقيقي حيث ولدت سلطات أمر واقع فرضت وصايتها على المجتمع وقمعت الأصوات المخالفة أحياناً باسم “الثورة” وأحياناً باسم “الدين” أو “الأمن”.
وعليه كان الدرس القاسي أن الاستبداد ليس اسماً بل سلوك، وقد يولد من داخلنا إذا لم نواجهه بوعي نقدي ومؤسساتي يضمن المحاسبة وصيانة الحقوق.
فالمجالس المحلية وعلى الرغم من كونها محاولة نبيلة لتنظيم حياة الناس سقط كثير منها بسبب غياب الثقافة المدنية وضغط السلاح أو بسبب بنائها ومسارها القائمين على المحسوبيات والقرابات.
لذا لم يكن يكفينا سقوط النظام بل كان علينا أن نسقط “ثقافة النظام” المزروعة في تفاصيل حياتنا.
إن من أكثر التحديات التي ستواجه سوريا الجديدة هي كيفية تعاملنا مع من نختلف معهم؟
لا نتحدث عن الخصوم السياسيين فحسب بل عن الجيران، زملاء الدراسة، وحتى أفراد العائلة الذين انقسموا سياسياً أو طائفياً أو اختاروا الصمت.
فهل نمتلك الشجاعة لفتح هذه الجروح؟ وهل نعرف الفرق بين العدالة والانتقام؟
ذلك أن الديمقراطية لا تبدأ من صندوق الاقتراع بل من اللحظة التي تقرر فيها أن من يخالفك لا يستحق الكراهية بل الاحترام والدفاع عن حقه في إبداء الرأي رغم مخالفتك لرأيه، إذ لم نتعايش أو نُدرَّب على هذا السلوك بعد.
ففي زمن الثورة كثُر التخوين وفي زمن السلم وبناء الدولة قد تكثر التعميمات.
لذلك لا حل سوى إفشاء وتوسيع نطاق ثقافة الاعتراف المتبادل التي ترى في الاختلاف ثراءً لا تهديداً.
الوعي والعدالة: الطريق نحو الديمقراطية الممكنة
صناعة الديمقراطية ليست مجرد كتابة دستور بل تغيير جذري في طريقة التفكير والعلاقات والتربية.
حيث تبرز ثقافة الديمقراطية حين نرفض فكرة “الزعيم المنقذ” ونطالب بمؤسسات تحاسِب وتراقب، حين نعلّم أبناءنا أن يسألوا لا أن يطيعوا دون نقاش، تبرز عند إشراك النساء والشباب في القرار لا أن نجعلهم ديكوراً زائفاً نجمّل بهم المشهد، وعند الإيمان بأن الإعلام الحر ليس خطراً بل ضمانة ضد عودة القمع.
ولنكن واقعيين لن يُنجز هذا في سنة أو اثنتين لكن كل شيء يبدأ من التفاصيل الصغيرة، يبدأ من صف دراسي يناقش لا يحفظ ومن مسلسل يعالج لا يكرس القوالب ومن عائلة لا تسخر من المختلف بل تُنصت له.
نحن بحاجة إلى ثورة وعي وإلا سنعيد إنتاج المأساة بأسماء مختلفة.
ومما لا شك فيه أنه لا يمكن بناء دولة جديدة فوق ركام الظلم دون إحقاق الحق وهنا يمكن التنويه إلى أن العدالة الانتقالية ليست انتقاماً بل وسيلة للإنصاف، لاستعادة الثقة ولمنع التكرار.
وبدونها لا يمكن لدولة خارجة من أتون الاستبداد أو الصراع الداخلي أو الحرب الأهلية أن تخطو باتجاه الاستقرار والتنمية والسمو.
ففي جنوب أفريقيا مثّل إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة بعد انتهاء الفصل العنصري نموذجاً عالمياً يُثبت أن العدالة والضمير يمكنان أن يسيرا جنباً إلى جنب لتهدئة الجراح وطي صفحة الماضي.
ودون هذا الصدق مع الذات ستنهار أي محاولة للمصالحة الحقيقية.
الإعلام والتعليم: معركة الوعي بين التحرر والتضليل
في بلد عاش على إعلام يُقدّس الحاكم ويشيطن كل نقد نحتاج إلى ثورة إعلامية موازية للثورة السياسية حيث كانت سوريا في عام 2019 ضمن أسوأ عشر دول في العالم لحريات الصحافة حسب تصنيف مراسلون بلا حدود ولا تزال الأوضاع تزداد سوءاً وهذا يوضح أن الإعلام لم يتغير بعد وهو ما يجعل التجرد منه ضرورة في رحلتنا.
لذا نريد إعلاماً يبحث عن الحقيقة لا يبيع سرديات جاهزة، نريد ثقافة تُحرر لا تُخدر ونريد فناً يُربي الوعي لا يُستخدم كواجهة سلطة.
ذلك أن الديمقراطية تُروى بالكلمة وتُرعى بالفن وتُحصن بالثقافة.
ولا ديمقراطية دون مقاومةٍ جذرية لخطاب الكراهية أياً كان مصدره فالكلمة التي تحرض على الإقصاء تقود في النهاية إلى القمع والعنف.
وبطبيعة الحال لا يمكن أن نبني ديمقراطية بلا جيل وعيه مدرّج من الصغر.
في سوريا ظلت المناهج تُظهر الولاء للنظام أكثر من تنمية التفكير الحر والمواطنة.
والآن في مرحلتنا الانتقالية صار واجباً تعديلها لتزرع قيم التسامح والتفكير النقدي وحقوق الإنسان بدلاً من الانصهار في روايات الماضي فقط وإن أردنا تصليب الديمقراطية وتعميق جذورها فعلينا أن نزرعها في كتب الأطفال وأساليب التدريس وعلاقات المعلم والطالب.
فمن التعليم تبدأ كل الثورات الحقيقية أو تنتهي.
هل نبني سلطة… أم نبني دولة؟
حين يسقط نظامٌ استبدادي يتسابق الجميع على السؤال “من سيحكم؟”..
لكن السؤال الأعمق والذي يغيب غالباً هو كيف سنحكم؟
وهنا يكمن الفرق بين أن نبني سلطة أم دولة.
في التجربة السورية ظهرت سلطات حملت شعارات الثورة لكنها مارست الإقصاء بمنطق القوة لا بمنطق القانون.
وهنا يكمن الخطر، خطر أن نعيد إنتاج الاستبداد باسم الثورة من جديد وهو ما حدث في العديد من الثورات، من روسيا إلى إيران إلى أمريكا اللاتينية..
وحيث أن الدولة السليمة بمفهومها الحديث تقوم على مؤسسات تحترم القانون وتحاسب الحاكم قبل المواطن.
لذا فإن الديمقراطية لا تقتصر على اختيار حاكماً جيداً بل التأسيس لنظام يمنع تحول الحاكم إلى ديكتاتور مهما كانت نياته.
لا أحد يملك وصفة جاهزة لسوريا ديمقراطية لكن ما نعرفه جيداً هو ما لا نريده أن يتكرر، لا نريد سجانين جدد ولا نسخ ملونة من الاستبداد القديم، لاسيما وأننا الجيل الذي رأى الثورة بأعينه وذاق مرارة الفشل وصدمة الخذلان والجيل الذي امتلك أيضاً فرصة أخيرة لكتابة فصل جديد بشرط أن نبدأ من الآن بصناعة وعي مختلف.
وعي يقوم على أن الديمقراطية ليست عدالة انتقائية بل عدالة للجميع وأن حقوق الإنسان ليست مِنّة من أحد بل حق يولد مع كل طفل يولد على هذه الأرض وأن المعارضة التي تشبه الاستبداد لا تختلف عنه في شيء بل هي وجه ثان للنظام الذي تعارضه.
الديمقراطية لا تُمنح كبطاقة هوية بل تُزرع كأشجار الزيتون… ببطء وبجهد وبكثير من الألم.
وإن لم نغلق باب الاستبداد بالكامل فإنه سيعود… بربطة عنق وربما بكلام أجمل من الديكتاتور السابق.
ولهذا لا نريد فقط إسقاط الاستبداد بل إسقاط قابليتنا له ووأد الرحم الذي قد يحتضنه وينجبه لاحقاً.