مقالة رأي
الكاتب : موفق العلي

حيادية الدولة ودورها في ترسيخ الوحدة الوطنية في المجتمعات التعددية

قد يختلف معنى مصطلح حياد الدولة بحسب السياق الذي يرد فيه، فهو في سياق القانون الدولي، يعني الحياد الدولي
أو عدم الانحياز، وهو في سياق السياسة، يعني حياد الدولة تجاه مواطنيها. وعليه يمكننا القول إن حياد الدولة نوعان:

دولي، وداخلي.

 الحياد الدولي

وهو يشير إلى وضع قانوني تمتنع فيه الدولة عن المشاركة في الصراعات الدولية، وتحافظ على مسافة متساوية من جميع الأطراف المتنازعة، بشرط أن تعترف الدول الأخرى بنزاهة تلك الدولة.

الحياد الداخلي

ويعني حياد الدولة تجاه مواطنيها، بحيث تقف على مسافة واحدة من جميع مكونات المجتمع، بغض النظر عن الطوائف أو الأديان أو القوميات. هذا الحياد يحمي الدولة من إثارة أي نزاعات داخلية، خاصة في القضايا الحساسة مثل الدين، أو العرق أو الطائفة أو النوع الاجتماعي.

أهمية حيادية الدولة:

تعود أهمية حيادية الدولة، إلى أنها ليست فقط السبيل الوحيد إلى المساواة بين مواطنيها، وإنما كذلك السبيل إلى ضمان هذه المساواة، وأن يصبح الاختلاف في حياة المجتمع والفرد عامل إثراء وبناء، لا عامل تفرقة وهدم وصراع. وبذلك تكون الدولة ليست دولة هذه الفئة أو تلك، أو سلطة هذا الجنس أو ذاك، وإنما دولة كافة المواطنين على حد سواء.

فمن أهمّ الأسس، التي يجب التركيز عليها، عند الحديث عن الدولة، هو حياديّتها. وهذا ما يجب أن تكون عليه الدولة الديمقراطية تجاه مواطنيها، وإلا فإن ذلك ينتقص من ديمقراطيّتها، بقدر ما تقترب من إحدى فئات    مواطنيها وتبتعد عن غيره..

شروط حيادية الدولة:

تمهيد: الديمقراطية والاستبداد:

وبما أنه لا دولة بلا مجتمع، فإن حيادية الدولة يُفترض أن تتحقق في ظل مجتمع حيادي أيضاً، غير مجيّر أو مسيطر عليه لصالح أي نمط من أنماط الاختلاف، وبذلك يكون مجتمع الجميع، فلا يميّز أحداً عن أحد إلا بمقدار يقدمه للمجتمع، ولا يعطى لأحد في المجتمع إمكانيّة أن يهيمن عليه أو على الدولة.

وحتى تتحقّق حياديّة الدولة وعدالتها مع مواطنيها، وتتمكّن فعليّاً من أن تكون دولة حياديّة، لا بدّ من أن تتحقق فيها مجموعة من الشروط الذاتية (في الدولة) والشروط الموضوعيّة (في المجتمع) مع الإشارة إلى أن الحيادية والديمقراطية لن تكونا مطْلقتين؛ فالوصول إلى المطلق صعب المنال. لذا يكفي الاقتراب منه.

وبداية.. فإننا نتحدث عن “الدولة الديمقراطيّة”، فهي المعنيّة هنا، لأنها هي المُفترض أن تريد وأن يُراد منها أن تكون دولة حياديّة. فكما أن الحياد لا ينمو إلا في أحضان الديمقراطية، فإن الديمقراطية هي الأخرى لا تتجذر إلا في ظل الحياد. ولن ندخل هنا في جدال (البيضة والدجاجة) أي منهما كانت تسبق الأخرى.

أمّا الدولة الاستبداديّة فهي لا تريد ولا يمكنها أن تكون حياديّة. فهي سواء أكانت دولة سلطانيّة، أو دولة ديكتاتوريّة، أو دولة قوميّة، أو دولة دينيّة[1]، أو دولة دوغمائيّة. فستنحاز إلى ما يعزز استبداديتها..

ولكي تكون الدولة حيادية فلا بد من أن تكون بعيدة عن أيّ شكل من أشكال التسلّط، وألا يتملكها أيّ عنصر أو عامل فئوي، وأن تكون قائمة على أُسس عقلانيّة وعلميّة ووظيفيّة، وأن تكون “دولة الجميع”، وتضمن مصالح الجميع بشكل متساو.

1.               جدليّة الدولة والمجتمع:

قوة الدولة:

إن بناء أية دولة يحتاج إلى القوّة، فثمة دول تعتمد على قوّة السلاح كالدول الديكتاتوريّة، ودول تعتمد على قوّة الأعراف كالدول الملكيّة، ودول تعتمد على قوّة الدين كالدولة الدينيّة، أو على قوة الانتماء كالدولة القوميّة، أو على قوّة الدعم الخارجي، وهلمّ جرّا. ومقابل ذلك فثمة دول تعتمد على (قوّة شعبها ومجتمعها) وهي الدول الديمقراطيّة. فالمجتمع في النظام الديمقراطي هو الذي يمدّ الدولة بالقوّة اللازمة لكي تكون ديمقراطيّة، وهو الذي يمتلك القوّة الكافية ليمنع هذه الدولة من الانحراف عن الديمقراطيّة، ولكي يضمن استمرار الديمقراطيّة. ولكي يتحقّق له ذلك فلا بدّ للمجتمع من أن يكون “ديمقراطيّاً”، وكما هي الحال في علاقة ديمقراطيّة الدولة بحياديتها، فكذلك هو الأمر بالنسبة لعلاقة ديمقراطيّة المجتمع بحياديّته.

ماذا تعني حياديّة المجتمع؟

 حياديّة المجتمع تعني ألا يكون فيه أي شكل من أشكال التمييز أو التحيّز أو التسلّط، من أية فئة أو جهة، ففي مجتمع متديّن مثلاً قد يصبح الإلحاد وصمة تؤذى صاحبها بتهمة الكفر، وفي مجتمع طائفي، يتمّ فيه التمييز بين الناس على أساس دينهم، ربما يؤديّ هذا إلى الانتقاص من حقوق الأقليّات وحتى قمعها، وفي مجتمع ذكوري تنتقص قيمة المرأة وتُهمَّش، وكذلك الحال في مجتمع قومي أو عرقي، وهكذا دواليك. فلكي يكون المجتمع “حياديّاً” يجب أن يتجاوز كلّ ذلك، ويكون مجتمعا ديمقراطيا يتساوى فيه (الجميع)

إمكانية حياد المجتمع:

السؤال عن إمكانية حياد المجتمع سؤال مشروع. ففي بيئة تكثر فيها الانتماءات، يصبح من الصعوبة ضمان الحياد التام، حتّى في مؤسّسة صغيرة كالأسرة، فما بالك بمؤسّسة شاملة كالدولة؟! لذا يصعب التكهن بـإمكانية تحقيق “حياديّة المجتمع”، لأن بعض مستويات الحياديّة ترتبط ببعضها بشكل متكامل. فلا بد من أن يتعايش الجميع، ضمن تفاهم ولو على الحد الأدنى من الأخلاق المشتركة [2]، التي لا تسمح لأية فئة مهما عظمت بالتعدي على أية فئة مهما صغرت. وإلا تصادمت الأهداف، وزالت حيادية الدولة تماماً.

2.               إعادة نظر في بعض المفاهيم الحسّاسة:

 يمكن القول بناء على ما تقدّم: إنّ هناك علاقة جدليّة بين حياديّة الدولة وديمقراطيّتها من ناحية، وبين حياديّة المجتمع وديمقراطيته من ناحية ثانية، فالدولة الديمقراطيّة، التي تستمدّ قوّتها من مجتمعها، لن تجد في هذا المجتمع القوّة الداعمة، إلّا إذا كان مجتمعاً ديمقراطيّاً. وهكذا يجب إعادة تعريف الدولة الديمقراطيّة بأنّها الدولة التي تقود مجتمعاً مستقرّاً، أي متحررا من كافة مراكز السيطرة، وأشكال التجمّع ذات النزعات الخاصة، ومن أيّ شكل من أشكال التعصب أو التمذهب أو المصلحة أو الهيمنة. وبهذا يكون المجتمع مبنيّاً على أسس تحقّق حياديّته. فهل من الممكن وجود مثل هذه المجتمعات؟!

الجواب هو أن المجتمعات الليبراليّة الحديثة قطعت في هذا السبيل شوطا كبيراً، وما زالت تتقدّم فيه، ولكنها لم تصل بعد، إلى غايتها أو المثال الذي تصبو إليه، أو يصبو إليه أنصار الحيادية ودعاة الديمقراطية. فالوصول إلى المثالي المطلق ليس ممكناً, لذا فإن المطلوب هو الاقتراب من ذلك، من خلال توافق عناصر المجتمع على الحدود الدنيا المشتركة

3.               الخلاصة:

نخلص م ما تقدم إلى أنّ الدولة الديمقراطيّة لا تنمو إلا في أحضان مجتمع ديمقراطي، وأن حياديّة الدولة لا تتحقق إلا في مجتمع حياديّ. وبما أنّ مصدر قوّة الدولة الفعلي هو مجتمعها، فإن من الصعوبة فعليّاً بناء دولة ديمقراطيّة في مجتمع غير ديمقراطي، وهذا يعني أن حيادية الدولة تقتضي حياديّة المجتمع أيضاً، وهذا لن يكون ممكناً إلا بتجريد إخوة الوطن من وسائل العداء للمجتمع وديمقراطيّته وحياديته، وذلك عبر عقلنة الثقافة والاقتصاد، وقوننة نشاط الاختلاف، ولو في الحدود الدنيا المشتركة كما أسلفت، بما يتناسب مع العقلانيّة، ولا يتناقض معها أو يشكّل تهديداً لها.

[1] – مع أن السيد مهند هشام يرى أن الشريعة الإسلامية تسمح بالعمل الإنساني المحايد.. (المجلة الدولية للصليب الأحمر.)

[2] – يقول مارتن لوثر: (أسوأ مكان في الجحيم محجوز لهؤلاء الذين يقفون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية)

منظمة مارس، هي منظمة حيادية توفر مساحة حرة للتعبير عن الأفكار والآراء ،نود التأكيد بأن المعلومات والآراء والأفكار الواردة في هذه المقالة تعبر عن رأي قائلها، ولا تعكس بالضرورة مواقف أو سياسات المنظمة ومنصاتها.