الهوية السورية… من الانقسام إلى الانسجام

دانة جليلاتي

المركز الخامس

 

“هويتي هي ما يجعلني فريداً، لكنها أيضاً ما يضعني في مواجهة الآخر” هذا ما عبّر عنه أمين معلوف في كتابه الهويات القاتلة متحدثاً عن تلك الانتماءات التي قد تبدو أحياناً مصدر اعتزاز في المجتمعات المتنوعة وتتحول عند منعطفات التاريخ الحرجة إلى أدوات قتل.

لم تكن الهوية يوماً أصل المشكلة الأوحد في سورية، فمنذ اندلاع الثورة في العام 2011، ظهرت على السطح أسئلة ظلت غير مطروحة لعقود طويلة: من نحن؟ لمن ننتمي؟ ما الذي يربط العلوي بالدرزي؟ والكردي بالعربي؟ والمسيحي بالمسلم؟ هذا الصراع الهوياتي لم يكن طارئاً بل كان كامناً بانتظار لحظة مؤاتية ليظهر، والمفارقة ليست في وجود ذلك التعدد بل في تحوله إلى أداة صراع، فهل نحن أمام “هويات قاتلة” بالفعل؟ وهل ثمة مخرج في حال أعدنا صياغة مفهومنا للانتماء بالمشاركة مع الآخر لا على حسابه؟ 

الأزمة السياسية ليست وحدها المشكلة

لم تكن الأزمة السورية أزمة سياسية فقط، بل أزمة هوية استمرت لفترة طويلة، وتم فيها تهميش البعد الثقافي التاريخي لهوية السوريين لصالح سردية رسمية اختزلت الوطن في شعارات صماء. مع تفجر الصراع تكشّف ما كان كامناً من وجود علوية سياسية، كردية مقصية، وتهميش مناطقي وغير ذلك، وبطبيعة الحال فإن تحول الهوية من مركب متعدد إلى انتماء واحد يجعل الإنسان يستميت دفاعاً عنها وكأنها تهديد وجودي.  

برزت الهويات الفرعية كوسيلة للدفاع عن النفس. يلجأ الأفراد عادة في حالات ضعف الدولة أو حكم الاستبداد إلى هوياتهم الطائفية كمأوى للحماية ويعتبرونها حصناً في مواجهة المجهول 1 وتبدأ الجماعات بإعادة تعريف نفسها خارج الإطار الوطني. 

لطالما استخدمت الهوية في سورية كقناع إيديولوجي، وكانت السلطة تمارس استبدادها من وراء مزاعم الانتماء للقومية العربية بهدف كبت الانتماءات القومية في سورية2 واستخدمت القومية العربية كإيديولوجيا سياسية تجاهلت التعدد الإثني والثقافي وكانت سبباً في تهميش الكرد والسريان والأرمن والآشوريين وغيرهم. وبعد العام 2011، تفككت الهوية أكثر فأكثر حين برزت في الشمال الشرقي هوية كردية تسعى إلى حكم محلي، ونشأت في إدلب هويات دينية ملتزمة، في حين فُرضت في مناطق النظام هوية أمنية لا تحتمل الاختلاف. 

هوية نخشاها وهوية يُخشى منها

لا يمكن الحديث عن الهوية السورية دون التوقّف عند العلاقة الملتبسة لدى السوريين بالانتماء والتي يحكمها القلق والريبة أكثر مما تحكمها الثقة أو الانسجام. وقد تكون واحدة من أخطر نتائج الاستبداد الطويل التي عشناها كسوريين خوفنا من الهوية. لقد نشأت أجيال في سورية لا تنظر إلى الهوية على أنها دليل على الغنى والتنوع بل أداة للانقسام والتمييز، والمؤشر الأوضح كان إبان الثورة السورية حين انتشرت عبارة “طائفتي سوري” والتي بدت أنها محاولة لتجاوز الأسئلة العميقة حول الهوية من خلال مزج البعد الطائفي مع الوطني. المجتمع السوري ككيان مقموع الهوية، لم يُسمح له بتجربة التعبير الحرّ عن ذاته3 في حين أن الهويات ليست عوائق، بل مفاتيح لفهم أعمق للدولة والمجتمع.

كي لا تبدو الصورة قاتمة تماماً، من المهم أن نذكر أيضاً أن البنية الاجتماعية السورية كانت عبر التاريخ تحمل قابلية للانفتاح والتعايش ولم يكن التنوع في حد ذاته عاملاً سلبياً يؤثر في التعايش السلمي بين مختلف المكونات 4، لكن ما نحتاجه هو مشروع شامل يعمل على موالفة هذا التعدد ضمن هوية لا تلغي الهويات الفرعية بل تؤطرها. 

هوية وطنية جامعة، ملامح الحل: 

لن يكون الحل في إلغاء التعدد، بل في بناء دولة تنظمه من خلال آليات على رأسها أن يكون الدستور الجديد معترفاً بكل المكونات الثقافية اللغوية الإثنية ومانحاً إياها مساحة قانونية للتعبير، فضلاً عن إصلاح تربوي شامل يعيد تعريف “الانتماء” ويؤكد على أنه مسؤولية جماعية تتجاوز الدين والطائفة والانتماء السياسي. إن إيجاد سردية مشتركة مبينة على المواطنة والمساواة والاعتراف الشجاع بالماضي هي أيضاً سبيل للوصول إلى الهوية المأمولة. صحيح أن لا أحد يختار هويته، لكن كل أحد مسؤول عن كيف يدافع عنها5، والدفاع عن الهوية السورية يجب أن يكون مشروعاً وطنياً لا إقصاء فيه ولا تمجيد لطرف على حساب الأطراف الأخرى.  

الهوية مسار متغير 

عبر قراءة التجربة السورية، يتبين أن “الهويات القاتلة” التي تحدث عنها معلوف ليست نظرية مجردة، بل واقع عاشه السوريون طوال العقد الماضي، وقد آن الأوان لكي ننظر إلى سورية على أنها رواية عظيمة تحتاج إلى إعادة صياغة وتنقيح. رواية تكتب بلغة تعترف بالجميع وتصوغ وطناً يتسع لكل السوريين. كما أن علينا الامتناع عن التعامل مع الهوية كشيء جوهري ولدنا به، بل نبدأ بالنظر إليها كمجال متغير وقابل لإعادة الصياغة، واعتماد هذا التصور الديناميكي للهوية يستوجب بناء سياسات عامة وممارسات اجتماعية تكرس الحوار والشراكة. 

نحن السوريون، لا ننكر تعددنا لكن يجب أن نرفض اختزال وطننا. قد تكون الهويات “هويات منقذة” إن اخترنا أن نبنيها لا أن نحتمي بها ونتمترس خلفها. لم يكن أمين معلوف في كتابه “الهويات القاتلة” يتحدث فقط عن لبنان، بل عن أي بلد تتعدد في الانتماءات دون أن تُمد بينها الجسور. سورية التي نحلم بها لن تبنى فوق أنقاض هويات الآخرين، نحن بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يصالحنا مع أنفسنا أولاً فضلاً عن مصالحتنا مع الآخرين تهيئة لاندراج الجميع في الحالة الوطنية السورية وهو ليس بالأمر الصعب فيما لو توافرت النوايا الحسنة 6

في سورية الجديدة التي نحلم بها، نأمل أن تكون الهويات نوافذاً لا جدراناً. 

——————————————————————-ا

  1. ريمون معلولي- “عنما تصبح الطائفة أداة للصراع ليس مجرد هوية ثقافية”- مركز حرمون للدراسات
  2.  حمدان العكلة- قراءة في كتاب المعرفة والأيديولوجيا، نيسان 2022
  3. خلود الزغير- كتاب سورية: الدولة والهوية-2020
  4. أحمد قربي ونورس العبد الله- إضاءات على إدارة التنوع في سورية- في لزوم الوعي الوطني مع المواطنة- مركز الحوار السوري
  5. أمين معلوف، من كتاب In the name of Identity 
  6. أحمد مظهر سعدو- “في حاجة سورية إلى عقد اجتماعي جديد”-. العربي الجديد